في أقل من عام، أنسى جمال بلماضي الجزائريين مرارة ثلاثة عقود.
المدرب الجاد، الحاد، الصارم، كان وصفة صنعت الفرح لبلاده بتتويج منتخبها بلقب كأس الأمم الإفريقية في كرة القدم للمرة الأولى منذ 1990.
تفوق المدرب الشاب في عرف المديرين الفنيين (43 عامًا)، على صديق النشأة في مدينة شامبينيي-سور-مارن في ضواحي باريس، آليو سيسيه مدرب منتخب بلاده السنغال.
المباراة النهائية للنسخة الثانية والثلاثين للبطولة التي أقيمت الجمعة على إستاد القاهرة الدولي، انتهت جزائرية بنتيجة (1 – 0)، بهدف مبكر سجله بغداد بونجاح.
ركع بلماضي طويلًا على أرض الملعب، وأحاط به لاعبوه، ورموا به في الهواء احتفالًا أكثر من مرة، على وقع هتافات المشجعين الذين حيوا اسمه أكثر مما نال نجوم المنتخب من صيحات.
أنهى بلماضي الذي تولى مهامه مطلع آب/أغسطس 2018، الانتظار الجزائري الممتد 29 عامًا، منذ تتويج محاربي الصحراء بلقبهم الوحيد في أمم إفريقيا بفوز على أرضهم على نيجيريا (1 – 0)، علمًا بأن الجزائر كررت الفوز على نيجيريا في نصف نهائي بالبطولة المنصرمة، وبنتيجة (2 – 1)، تدين بها إلى ركلة حرة، نفذها القائد رياض محرز في الثواني الأخيرة من المباراة، يوم الأحد الماضي.
في مؤتمراته الصحافية، غالبًا ما ظهر بلماضي شاردًا، مفكرًا، وكان يدرك من البداية حمل المهمة الملقاة على عاتقه.
وقال ردًا على سؤال عما اذا كانت الجزائر ستتوج باللقب “لست سياسيًا ولست صانعًا للمعجزات… أعد الشعب الجزائري بأن نقاتل (في النهائي) كما قاتلنا حتى الآن”.
وأوضح “كرة القدم مهمة بالنسبة إلينا، هي الرياضة الأولى، وتعكس العديد من الأمور، تجمعنا جميعًا”.
في عهده، كان لاعبو المنتخب على قدر حمل الاسم الذي يعرفون به، وهو “محاربو الصحراء”، وعرف بلماضي كيف يضع الجزائر في النهائي للمرة الأولى منذ لقب 1990، وكيف يرسم للاعبيه مسارًا ثابتًا، جعلهم من البداية أبرز المرشحين في نظر العديد من النقاد والمدربين.
الأهم هو أن بلماضي طوى صفحة معاناة المنتخب، لا سيما منذ ما بعد مونديال 2014، من خلال الخروج من الدور الأول لأمم إفريقيا 2017، والغياب عن مونديال 2018.
قال النجم السابق للكرة الجزائرية لخضر بلومي لقناة “الهداف” بعد بلوغ ربع النهائي: “المشكلة (في المنتخب) حلها السيد بلماضي.. عرف بطريقته الخاصة أن المشكلة هي بين اللاعبين”، مضيفًا: “حل المشاكل، أبعَد من أبعَده، وضع البعض في مكانهم، أدخل الناس في الصفوف.. المشكلة كانت انضباطية بين اللاعبين”.
ومفردة واحدة تكررت بين المعلقين لدى الحديث عن جزائر 2019، وهي “الروح”، ففي مقابل نبرته الهادئة وصوته الخفيض، كان بلماضي كتلة من الحركة على خط الملعب، يقوم بتوجيه اللاعبين، ويحتفل بالأهداف، يصرخ نحو الحكام بعد قرار يراه غير مناسب أو خطأ قاس على لاعبيه.
وعلى المستطيل الأخضر، منتخب على صورة مدربه، تجد فيه صلابة دفاعية، واستحواذ في الوسط، وخط مقدمة فتاك، ومعه، جرى اللاعبون خلف كل كرة، استبسلوا في استعادتها اذا ضاعت، أو انتزاعها متى سنحت الفرصة.
هذه العزيمة اختصرها النجم المصري السابق محمد أبو تريكة الذي يعمل كمحلل لقنوات “بي ان سبورتس” القطرية، بالقول بعد فوز الجزائر على السنغال في الدور الأول، إن “الفريق يلعب بروح، لا لاعب يقصّر، الجميع ملتزم”، مضيفًا: “المدرب الذكي العبقري نعمة، وبلماضي (هو) نعمة”.
لم تأت الإشادات حصرًا من المعلقين، بل رفع مدربون القبعة لبلماضي، لا سيما سيسيه ومدرب نيجيريا الألماني غرنوت رور.
في مقابل كل الإشادات، أكانت للمنتخب أم له، بقي بلماضي متواضعًا.
منذ البداية، قلل من شأن اعتبار الجزائر مرشحة، مذكّرًا دائمًا بالمرحلة السابقة الصعبة، وفي أحاديثه، بقيت حسرة الغياب عن المونديال الأخير حاضرة، وعلى المستوى الشخصي، لطالما تفادى اختراق مساحته الخاصة.
رد مرة على سؤال عن عدم ظهور معالم سرور على وجهه رغم نتائج المنتخب “بلا، أنا مغتبط”، وأضاف: “ربما أنا متعب، لا سيما وأن مباراة أخرى تنتظرنا سريعًا… أنا لا أخفي فرحتي، لكن ثمة مباراة أخرى تنتظرنا”.
يرى عارفو بلماضي أن هذه المثابرة هي من أسرار نجاحه.
يوم تعاقد معه الاتحاد الجزائري، كان المدرب المتحدر من ولاية مستغانم (شمال) خارجًا من تجربة قطرية.
اللاعب الذي عرف في مسيرته أندية مثل باريس سان جرمان ومرسيليا الفرنسيين وساوثمبتون الإنكليزي، دافع عن ألوان الغرافة ولخويا، ومع الأخير بدأ مسيرته كمدرب في 2010، محققًا معه لقبي الدوري المحلي في موسميه الأولين، وقاد المنتخب القطري الأول للفوز بكأس الخليج 2014، وبعدها إلى الدحيل (النادي الناشئ من دمج لخويا والجيش)، فقاده لثلاثية محلية (الدوري وكأس قطر وكأس الأمير).
المدير السابق للعنابي فريد محبوب الذي عاصر بلماضي، قال لوكالة فرانس برس إن بلماضي “يعمل بإخلاص، يعرف إدارة المباريات بشكل صحيح، يحضر الفريق نفسيًا، ويستفز اللاعبين لإخراج قدراتهم”.
خلال البطولة، قال عنه اللاعب مهدي عبيد: “نتعلم معه دائمًا، هو حاضر دائمًا، يدعمنا، ويدفعنا لتخطي أنفسنا، ساعدنا في التقدم بمجالات مختلفة، الذهنية، تناغم المجموعة… وحتى في مناحي الحياة اليومي”.
قربه من اللاعبين ظهر في أكثر من محطة خلال البطولة، فتصرفاته في التمارين معهم، والاحتفال وسطهم في أرض الملعب ومعانقتهم بحرارة، تعكس ذلك.
لكن اللحظة الأبرز كانت في ربع النهائي ضد ساحل العاج، حين كان اللاعبون ينفذون ركلات الترجيح الحاسمة، بينما ينصرف هو لمواساة يوسف عطال، الجالس دامعًا على مقاعد البدلاء بعد إصابته في الشوط الأول.
قبل المباراة النهائية، سُئل عما اذا كان سيكون عاطفيًا ضد السنغال، إذ أنه وعلى رغم تحقيقه ألقابًا سابقة كمدرب، لكنها المحطة الأولى مع منتخب بلاده، فرد بعد تفكير: “لا أعرف ما اذا كانت عاطفي الكلمة المناسبة، في كل حال، اختبار مشاعر معينة، نعم، هذا أمر نعيشه منذ البداية”.
وتابع “نعيش، على الأقل أنا، من البداية على رأس الادارة الفنية للمنتخب الوطني، كل المباريات مع الكثير من العواطف، لكن هذا لا يعني أنني لست مركزًا لأبعد حد.. أحد الأمرين لا يحول دون الآخر”.
ومساء 19 تموز/يوليو 2019، نجح جمال بلماضي في الأمرين.
(أ ف ب)